ايديولوجيا لغوية/ لغة ايديولوجية
د. عادل الثامري
لطالما جالت فكرة العلاقة بين اللغة والايديولوجيا ببال الكثير من الكتاب والمفكرين منذ اورويل وصولا الى نظرية الايديولوجيا التي طرحها التوسير حيث تعمل الايديولوجيا عبر اللعب بالكلمات، و كثيرة هي الامثلة في التاريخ على هذا اللعب بالكلمات فالتدخل الفرنسي " الانساني" في رواندا و الحرب الاسرائيلية على لبنان باسم " السلام في الجليل" هما مثالان على ذلك. ان المصطلحات الرئيسية في قاموسنا السياسي مثل " الحرية" و "الديمقراطية" ، كما يعرف الجميع، هي المواقع الرئيسة لعمليات الايديولوجيا و تعد هذه المصطلحات من الاسباب الاساسية لمعاداة السياسة الانتخابية في الغرب الديمقراطي، فنحن يمكن ان نفهم لماذا يصرح فيلسوف مثل (الين بادو) ان الديمقراطية هي الهوس الاكبر في المشهد السياسي!
يرى صنف من الكتاب ان الايديولوجيا ما هي الا عنوان اخر للجوانب الثقافية و الفكرية لمنظومة اجتماعية و سياسية محددة و قد اشتغلت السرود الكبرى لوصف و جودها و بنيتها و تطورها التاريخي و هذا المعنى للايديولوجيا يرد الى عمل انطونيو غرامشي و الذي يؤكد على أن الايديولوجيا لا يمكن ان ترد الى فاعل واحد محدد و هي لا تقع في موضع محدد بل انها تتخلل نسيج المجتمعات و تنتج انماطا من الفكر و السلوك .
تعد الايديولوجيا طريقةً للنظر في الاشياء او هي مجموعة الافكار التي تقترحها طبقة مهيمنة في المجتمع او قل هي مجموعة المفاهيم و العقائد التي تشكل اساس النظام السياسي او الاقتصادي ، وهذه تحكمها عوامل تاريخية و جغرافية و ثقافية و سياقية و قد أسس تعريف ماركس الكلاسيكي للايديولوجيا لمركزية اللغة في تشويه و سوء فهم الواقع الاجتماعي و الاقتصادي للطبقة الاجتماعية . و تؤسس نظرية اللغة الماركسية ثلاث تحدارات نقدية في تحليل اللغة و الطبقة الاجتماعية: (1)تحليل اللغة بوصفها شكلا من اشكال الفعل و الوعي الاجتماعيين ، (2) تحليل الطبقة الاجتماعية و التنوع اللغوي ،(3) تحليل اللغة بوصفها وسطا للسلطة و السطوة و الايديولوجيا و الحقيقة في اسواق لغوية و رأسمالية محددة.
يرى فان دايك
صاحب النظرة السوسيوادراكية ،بهذا الخصوص، ان الايديولوجيات هي "رؤى للعالم" تؤسس "الادراك الاجتماعي" و هي مركبات من تمثيلات جوانب معينة من العالم الاجتماعي و الموقف منها ، وهي الرابط بين التمثيلات الادراكية و الصيرورات التي يستند اليها الخطاب من جهة و بين الوضع الاجتماعي و المجموعات الاجتماعية من جهة اخرى.
في حين يرى فيركلوف ،ذو التوجه الماركسي، ان الايديولوجيات هي ابنية من الممارسات من منظورات معينة و التي تُظهر تناقضات و خصومات الممارسات بطرق تتوافق مع مصالح و مشاريع الهيمنة.
و ليس امرا غريبا او سريا القول ان نقل الايديولوجيا يعد موضوعا مناسبا لامعان الفكر فيه طالما ان الكلمة هي ايديولوجية منذ البداية و هي تشتغل عبر منظومة العلامات ، و كما يقول فولوشينوف في مؤلفه( الماركسية و فلسفة اللغة) " حيثما كانت العلامة حاضرة فالايديولوجيا حاضرة" و هذه العلامة واسعة و تتمركز بقوة في العالم، فالعلامة الايديولوجية ليست انعكاسا او ظلا من ظلال الواقع فحسب بل انها جزء مادي من نوع معين من ذلك الواقع ايضا .ولكل ظاهرة تشتغل بوصفها علامة نوع من التجسيد المادي صوتا أو كتلة أولونا أو حركة جسدية أو ما شابه ذلك.
ويمكن الذهاب الى الرأي القائل بانه بدلا من النظر في ايديولوجيا منفردة، لابد و ان ننظر في مركبات العناصر الايديولوجية التي تبدو لاول وهلة غير منسجمة مع بعضها البعض لكنها تشتغل و تتمفصل او تنصص بوصفها ايديولوجيا واحدة.
ثمة قول للفرنسي (ماشيري) في مؤلفه (نظرية الانتاج الادبي) يوعز بان اللغة ايديولوجيا و هذا قول تبسيطي لكن يمكن ان يطور و أن يكتسب عمقا اكبر حينما نقول ان "النفسي" هو "لغوي" تحت اسم اخر هو التوسط اللغوي و هذا يوفر ربطا معقولا بين اللغة و الايديولوجيا _ و يمكن دراسة التداخل بين النفسي و اللغوي تحت اسم " التعبير" حيث ان النفسي هو تعبير اللغوي و هنا تدخل ظلال قراءات سبينوزا ودولوز. و يمكن ان نطور صياغات لنص ما من عوامل (الحميمية او القرب) و(لا انفصال الحقول) و(السكنى) و يمكن ان يؤخذ الاول و الثاني بوصفهما خصيصتين لتعبير سبينوزا اما الاخير فيوعز بفكرة "السكن" وفكرة هايديغر في ان اللغة تسكننا او ان الكلمات تُقيمُ indwell) ) ، و السؤال الذي يطرح فيما اذا كانت تأثيرية اللغة ترتبط بمفهوم التأثر الذي اشتقه دولوز من سبينوزا ام لا.
لكن يمكن ان نذهب اكثر من ذلك الى نظرية التوسير الثانية عن الايديولوجيا و هي عبارة عن سلسلة لغوية :مؤسسة/شعيرة/ممارسة/فعل كلام. المؤسسة هي منتجُ الخطاب و هي مادية بمعنى ان اداتها تستند الى مجموعة من الابنية و هي منتجة لقوانين اجتماعية و هي مادية-لغوية بمعنى انها تفرز ملفوظات جاهزة و استعارات نعيش بها؛ و الشعيرة هي حيث يتلقى الافراد هويةً عبر اسناد دور لهم في الفعل او السلوك الجمعي؛ و الممارسة هي التحول من الشعيرة الكلية الى الحياة الفردية اليومية وهنا بالذات توزع الايديولوجيا الجمعية . اما فعل الكلام فيمتلك خصيصتين هما: انه فردي و في الوقت نفسه منعدد بشكل لا نهائي: و مع فعل الكلام نصل الى لحظة الفردية و الذاتية التامة؛انها لحظة التعبير اللانهائية( بالمعنى الباختيني للانواع او بمعنى العاب اللغة).
في مقابل هذا الارث الفلسفي، ثمة دراسات يطلق عليها حقل ايديولوجيات اللغة وهو الحقل الذي يهتم باكتساب اللغات و الاساليب اللغوية لمعان اجتماعية و ايديولوجية. فعملية التطبيع اللغوي هي احدى الامثلة الكبرى التي تنصب عليها الدراسة ، و هذه العملية هي التعامل مع العلامات الاعتباطية التي نطلق عليها فنيا "رموز" كما لو انها كانت ايقونات (طبيعية) او مشيرات (موضوعية):عادة ما نجد ان الاجزاء الصوتية الاعتباطية و التي تخلو من المعنى و ملامح النبرة او اللهجة تمتلك معنى تأشيريا من نوع معين. و ايديولوجيات اللغة هي مجموعات من المعتقدات التي يؤمن بها اعضاء مجتمع المتكلمين وربما تكون مجموعات المعتقدات حول اللغة التي يشكلها مستعملو اللغة بوصفها تبريرا او عقلنة لبنية اللغة او استعمالها.
من هنا لابد من النظر الى الوعي اللغوي النقدي و اهميته و خصوصا مسؤولية منظومات التعليم في زيادة مستويات هذا الوعي. و الوعي شرط قبلي من شروط التغيير و مصطلح "نقدي" عادة ما يؤخذ على انه ينطوي على التزام باحداث التغيير الاجتماعي لكن لا يمكن افتراض ان النقاد الاكاديميين وحدهم يملكون امكانيات مثل هذا الوعي لتحقيق المسافة النقدية عن قوى اللغة و لتحقيق التغيير الاجتماعي ايضا.
ينظر الى الملامح اللغوية بوصفها تعكس صورا ثقافية اوسع للناس و الفعاليات . تحدد ايديولوجيات المشاركين عن اللغة الظواهر اللغوية بوصفها جزءً من و دليلا على ما يحسبونه تناقضات سلوكية و جمالية و اخلاقية في المجموعات الاجتماعية، ذلك ان الناس تمتلك و تتصرف استنادا الى تمثيلات للاختلافات اللغوية المشكلة ايديولوجيا، و في هذه الابنية تصير العلاقات التأشيرية اساسا تنبني عليه العلاقات الاخرى للعلامة.و يمكن تشفير الايديولوجيا في منظومات الاستعارة فقد ناقش لايكوف و جونسون (1980) ان انساق المثيل الاستعاري و المجازي تشكل معالجاتنا الادراكية للاحداث فاستعارة موسعة تستعمل بانتظام في نص ما يمكن ان تحقق اهدافا ايديولوجية ، على سبيل المثال، ان استعارة عن المرض يمكن ان تستعمل لوصف مشاكل اجتماعية (ان سلوكا مناهضا للنسيج الاجتماعي ينتشر كالسرطان في المدن)
,
و من موضوعات البحث الجديرة بالاهتمام العلاقة بين الايديولوجيات اللغوية و الايديولوجيات السوسيو-سياسية و الثقافية و خاصة مسألة كيف يمكن للايديولوجيات اللغوية ان تصبح ادوات للسلطة كجزء من المركبات الايديولوجية الاكبر.
للعـــــــــــودة للصفحة الرئيسة - العددالخامس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق