إرهاب
ياسين شامل
لا أستطيع الجزم بأن خطاياي الغائرة في الأفق البعيد ، قد تهلهلت ، و لم تعد ذلك الوتد الذي دق إلى القرار، أحاول الإمساك بأجنحتها المغادرة ، حاصراً تفكيري كي أستعيدها من وشائج الذاكرة الواهنة ، فقد نأت الكثير من الشواهد و تغيرت العديد من الطرقات بعد أن مر ردح من الزمن الغادر ، إلا أنني أخفق في استحضار بعضها ، و لا أعتقد أنها تستأهل تصعير النفس ، أو تدخل في دوامة التأنيب كونها ليست من الذنوب التي تستوجب القصاص ، لكنني أراها مثل الأوساخ الضئيلة الملقاة في مجرى النهر المنحدر نحو الباع الكبير للخليج . و لو حسبت كم من الإساءات التي كبلتني بها الحياة لألفيتها عديدة و مؤلمة ، كنت قنوعاً لا استجدي الإنصاف من الحياة أو من غيرها ، و حيائي بعد هذا العمر لا يزال شديداً ، فلم أكسر قيد التسامح و الاتزان ، لو فعلت و خرقت السدود ، ربما كانت سدوداً واهمة .. ، ربما كنت مخطئاً ، و قد لا يسع الناس الآخرون إلا أن يكونوا مخطئين ، فما كانت الدروب سالكة حد التمام و لم يكن الوجود محفوفاً بالياسمين قصراً ، و رغم بعض الاختلافات في المعتقدات والتي لا أحسبها تنأى بي بعيداً أو تشكل عائقاً يحول بيني و بين الآخرين ، فهؤلاء الناس الطيبون المنحدر ون من الإحساء ومن الخليج و التي لوحت الشمس بشرتهم ، فبدو بسحنة أهالي مومبي الغارقين بالسمرة ، و أولئك الآخرون المتأصلون المنحدر ون من الأسلاف ، جيل بعد جيل من مجد و محتد ، عايشتهم زمناً حسناً ، أنا القادم منذ خمسة و عشرين عاماً من الشمال أبدو بينهم بملامح الأتراك أو الأكراد ، تلك أيام طيبة أنقضت بقي الكثير من نثارها راسخاً في الذاكرة ، حسبوني واحداً منهم صاهروني ، و بعد وفاة زوجتني أكرموني ، و تزوجت امرأة منهم . و كان لحياتي لون زاهي آخر ساعياً بين عملي و عائلتي . و ما كنت أتصور أن يدخل الرعب قلبي بغتة ، لكن في ظل واقع جديد و مرير ، كان ثمة هاجس بدأ يساورني ، و يطرق القلق أبواب شؤوني المغلقة ، فولج الأسى ساحة داري ، و تكسر رتاج باب الجمود المترسخ بأوصالي ، اليوم و أنا أسير بمحاذاة النهر فوق بلاطات الرصيف ، و كل يوم ما زلت أمر عبر الجسر متجاوزاً الساحة المواجهة لبناية قديمة يقع داري خلفها ، هذه الساحة تتوسطها حديقة محاطة باسيجة حديدية ، تراصت عليها القطع السوداء ، لنعي المغدورين تحت رداء العنف الأسود المقيت ، في سماء بلون النحاس ، كانت الشمس تنحدر نحو الغروب و تخلف لوناً دموياً ، يبعث الأسى في دخيلتي ، و أنا أزفر الحسرات مع نفث الدخان من لفافة التبغ المشتعلة ، تلك العادة التي بقيت لي من عاداتي السيئة التي غادرتني قصراً . و أنا أقطع الطريق مشياً ، كانت ذكريات الأيام الغابرة تتقافز في مخيلتي غير منتبه إلى المارة و العجلات ، تقودني أزمتي الخانقة التي أحاقت بي مؤخراً ، لكنني بين الحين و الآخر أنحرف عن خط سيري متفادياً بعض الصبيان الذين يهرولون عائدين إلى بيوتهم ، ليطمئنوا قلوب أمهاتهم قبل حلول الظلام ، حيث لازال صوت الإطلاقات النارية يعلو في الفضاء الكئيب للمدينة المتناحرة .
عندما أصبحت بمواجهة البناية القديمة ، التي كانت تضج بالحركة في الزمن الغابر و هي أحدى دوائر الدولة المهمة والسرية آنذاك ، كان لها رعبها ، أمرّ مبتعداً عنها قدر استطاعتي ، أما الآن فأصبحت مهملة و مهدمة تأز الرياح عندما تصطدم بأسياخ الحديد النافرة من أعمدتها فيرجع الصدى في فراغها كأنه الأنين لأرواح حائمة تتلظى من العذاب ، كانت الشمس قد غادرت و أصبحت الشوارع موحشة ، بعد أن سقط الظلام عليها ، إلا من الكلاب السائبة والقطط التي تعبث بالأزبال المتكدسة تحت شجرة اليوكالبتوس المتسامقة فبدت أكثر حلكة من الفضاء المحيط بها ، فكانت أشكالها تبدو لنظري شائهة و لا تعطي حجمها الحقيقي ، و قبل أن أنحرف في الزقاق المؤدي إلى داري وقع نظري على كتابة كبيرة بخط أسود عريض على جدار البناية الذي أنعدم بياضه وأصبح لونه أصفر " الموت لحسن السعيد " ، أغمضت عيني و فتحتهما ، لا زالت الكتابة منقوشة في بؤرتي عيني ، كانت مثل صاعقة هبطت على رأسي و لفني الدوار، كأنني في بحر متلاطم الأمواج ، كنت أحاول أن أتماسك وامحي تلك الكتابة ، أو أهدم ذلك الجدار بضربات من رأسي الذي أخذ يعشش فيه الخواء ، لكن ما من وسيلة ممكنة لذلك ، تلفت يمنة و يسرة و خشيت أن يراني أحدهم ، كانت المسافة التي تفصلني عن داري قصيرة لكنني حسبتها ذات بعد مديد ، انحرفت بخطوات متعثرة نحو الدار ، اتجهت إلى الزقاق حيث بعض الدكاكين التي أغلقت أبوابها بإحكام قبل حلول الظلام ، و بعضها لم يفتح منذ زمن حتى صدئت أقفالها و سلاسلها الحديدية ، و لم يعد في هذا الزقاق أطفال ضاجون يلعبون ، ليس سوى رعب الهدوء الذي ينذر بقدوم شيء مجهول تحمله عاصفة هوجاء ، كنت مرعوباً ، أروم أن أختفي من وجه الدنيا و إلى الأبد حتى دلفت في الدار .
حالما دخلت الدار فوجئت بوجود أبنتي وزوجها " أحمد " ، كان استقبالهما لي حاراً ملؤه الاشتياق ، لكنني قابلتهما ببرود ، كانا قد حضرا خلافاً لعادتهما ، فلم يكن هذا موعد زيارتهما ، ولم يكن لدي علم بقدومهما ، ولو علمت ، لعدت قبل وقت الغروب ، لا بأس سوف يبيتان الليلة في دارنا ، ربما دعتهما زوجتي دون علمي ، و قد لاحظا اضطرابي ، و ما أن ألقيت بجسدي المنهك مثل كومة من الحشيش في كرسي قديم له مسندان مبتعداً قليلاً عن الجدار الذي طليته في الصباح بلون أزرق و لم يجف بعد فيتكسر عليه الضوء الضعيف مشكلاً ارتدادات تشبه الأمواج . حتى طفا الاستغراب على وجهيهما ، كانت أبنتي قد ورثت طلعة الشروق ومسحة الجمال و لون البشرة من أمها ، التي غادرتنا قبل سنين ، وزوجها ببشرته السمراء بلون البرونز حيث يبدو أكثر صرامة ، و عندما وضعت يدي على رأسي و كأنني أحاول الحفاظ على شيء ما من الإفلات قال أحمد :
- عمي .. ما الأمر الذي يزعجك و يجعلك في هذه الحالة .. المزرية .. ؟ .
أجبت و أنا مرتبك :
- بني .. قرأت كتابة على جدار البناية القديمة
- ما هذه الكتابة ؟
- الكتابة بخط أسود " الموت لحسن السعيد"
قالت أبنتي :
- لا بد أنك واهم .. يا أبي ، و حتى أن كانت هناك كتابة ، فلا أعتقد أنت المقصود ، قد يكون ذلك تشابه في الأسماء
- لا .. لست واهماً ، الكتابة رأيتها بعيني و قرأتها ، و هل يوجد غيري حسن السعيد
- و أن كنت لا أدري ، لكن ربما يكون ذلك
قال أحمد :
- يا عمي .. أرجو أن تهدأ وكن مطمئناً ، فانا لا أعتقد أن أحداً يريد بك ضيراً ، و ها أنا ذاهب ، و سأعود حالاً ، و سوف أرى ما هذه الكتابة ..! .
* * *
ما أن خرج أحمد حتى اقتربت مني أبنتي و زوجتي مسكتا يدي في محاولة ودودة لإقصاء الخوف و القلق عني . كنت مشتتاً ، لا أدري كيف أداري قلقي الذي لا أريده أن يطال من يحيطون بي و يغدقون بدفء مشاعرهم في الثغرات التي تصحرت بروحي . تضايقت من الضوء الذي يسقط مباشرة على عيني فغيرت مقعدي و أنا أزدرد رشفات الماء من القدح الذي جلبته زوجتي لي .
في ظل الأزمة العصيبة التي أودت بكل هدوئي و انسجامي ، كنت متخلخلاً من الداخل ، فلم تعد لي تلك الرصانة التي كانت ميزتي التي واجهت بها الكثير من المصاعب إلا بريقها الزائف ، الآن لا أستطيع أن أبحث عن قشة في هذا الركام و أجدها كي أتعكز عليها لأبدو قوياً بما يكفي ، ربما الظروف الآن أصبحت أكثر تعقيداً و قسوة غير محسوبة أو غير متوقعة ، أو ربما فتر ذلك الإصرار العنيد على مواكبة الحياة بكل نكوصاتها ، ربما لم أعد أومن بالمستقبل في ظل هذا الحاضر ، كانت تختلج في دخيلتي الأفكار المتضاربة ، و لا يستطيع عقلي أن يمسك بفكرة واحدة لكثرتها و ترادفها الواحدة تلو الأخرى . حتى زوجتي و أبنتي لم تتمكنا من أخراجي من اللجات المتلاطمة إلى حيث شواطئ الأمان .
في هذه الأثناء في عمق دوامتي صر الباب و دخل أحمد مبتسماً ، ناشراً يديه نحو السماء ، فارتسم ما يشبه القبة المشطورة إلى نصفين من الظلال فوق طلاء الجدار ، تاركاً وراء ظهره الباب مفتوحاً على الضوء المتسرب إلى الزقاق المظلم و هو يقول بمرح :
- لا توجد ثمة كتابة على الجدار
- لكنني رأيت الكتابة بعيني
رد بهدوء محاولاً مداراة مشاعري
- لا أدري .. لكنني لم أر أية كتابة على الجدار
كنت محرجاً ، هل يعقل أنه يحاول أن يفتعل أمراً ما أو يداري وضعي و يبعد الخوف عني لينتشلني من دوامة القلق ويرفعني حيث السكون و الاستقرار ، ليس من عاداته الكذب ، لكنني لا استطيع أن أجد لصدقه مطباً في دواخلي ، فلازالت الكتابة مطبوعة في مخيلتي ، و رغم عيون زوجتي و أبنتي اللاتي أخذن تصويب نظراتهما نحوي ، ربما تريدان مني استيضاحاً ، و قد لا أكون مؤهلاً لتقديمه .
و بعد جلسة طويلة ، كان الليل موحشاً و لم يغمض لي جفن و أنا أتقلب في فراشي ، تدور بي الأفكار ، فلم أجد أنني مذنب بحق أحد حتى استحق مثل هذا العذاب ، و رغم ثقتي العالية بأحمد ، لكنني لا أجد نفسي مصدقة ما يقوله بأنه لم ير الكتابة ، لا أدري كيف لم ير الكتابة ، خطرت لي فكرة ، و أحدثت ما يشبه الثقب الواسع في عقلي ( تسللت بهدوء من الفراش حملت قردل الطلاء و الفرشاة و ذهبت حيث الجدار ، كانت المدينة نائمة مغطاة بسكون المقابر تحت رداء الظلام إلا من هسيس ريح فاترة أو صوت لجرذ يخطف من مزبلة لأخرى ، فيزداد وجيب قلبي ، أحياناً أمشي متعثراً بالعلب الفارغة المتناثرة في الزقاق و في الحفر الكثيرة ، متفادياً الحفر العميقة المترسب في قاعها الماء الآسن مبتعداً عن الروائح المنبعثة منها ، و ما أن وقع نظري على الجدار ..الذي أصبح مثل خيال يطاردني في صحوتي و منامي ، ها هي الكتابة بخطها الأسود " الموت لحسن السعيد " ، دعكت الفرشاة على الكتابة بقوة حتى لم يبق حرف واحد " ، استمر ذلك كل ليلة حتى بعد أن غادرنا أحمد و أبنتي ، لكنني كلما أسأل زوجتي عندما تخرج ثم تعود إلى الدار تقول " لم أر كتابة ما على الجدار المتهرئ " و أرى في عينيها نظرات حائرة ، لكنني في الليل أجدها و أمحوها ، و في الصباح أجد القردل و الفرشاة في مكانهما ) . فقدت شهيتي للأكل ، وأصبح شعر ذقني كثاً دون رغبة في الحلاقة اليومية ، تلك العادة التي كنت لا أهملها أبداً ، بدأت أشعر بالمرض ، توقفت نزهاتي على جانب النهر ، سأل عني أصدقائي ، زارني بعضهم في الدار لكنني لم أصرح لهم بما رأيت على الجدار من كتابة ، و أغلب الوقت أبقى صامتاً بوجودهم ، منذ ذلك اليوم و أنا لا أمتلك الشجاعة لمغادرة الدار ، تيقنت لو بقيت كذلك سوف يحل الهلاك بساحتي قبل الأوان ، لذلك أعلمت زوجتي بأنني سوف أغادر إلى عمان ، في البدء كانت معارضة لفكرتي ، و تعتقد أن بقائي في مدينتي هذه ، هو ملاذي الآمن ، بغض النظر عما يحدث ، و لا تعتقد بأنني سوف أصمد هناك ، ربما لن أصل حتى أعود ثانية ، و أن كل ما يدور في رأسي ما هو إلا محض أوهام ، لكن إزاء إصراري ، بأنه ليس ثمة وسيلة للخلاص سوى هجرتي لعلي أحظى بمحيط هادئ لا يوجد فيه جدار متهرئ و أتمتع بأيام هادئة و هانئة ، رضخت مرغمة لرغبتي دون قناعة راسخة ،آملة ، عسى أن يعود الهدوء لي . أو ربما أعدل عن قراري ، فمن الصعوبة عليها أن تتحمل الوحدة بعد هذا العمر الذي شاركتني بتفاصيل كثيرة خلال سريانه .
لم يكن هذا القرار سهلاً ، بل كان قراراً قاسياً ، كان يعز علي أن أودع زوجتي ، سأغادر هذه الدار الهابطة إلى الأسفل عن أرض الزقاق ، و قد لا أستطيع نسيان جدرانها التي طليتها مؤخراً ، أو أهمل ذكريات كثيرة متناثرة تربعت في تلافيف الباحة و خبايا الغرف الضيقة فوق الأرائك و بين الكراسي ، لن تمر خيوط الشمس من خلال الشبابيك الموصدة ، سترتد ، و الصور التي رفعتها قبل الطلاء لم أعد تعليقها بعد ، ستبقى تحت طائلة يد الإهمال ، سوف يغلق الباب بقفل حديدي و بعد عدة أيام يعلوه الصدأ مثل دكاكين الزقاق ، و يتراكم الغبار فوق السطح و لا يوجد من يزيله ، ستغادر زوجتي متلفعة بعباءتها السوداء كتلفعها بالحزن و الحسرة لتسكن مع أبنتي و زوجها ربما تبقى صامتة زمناً طويلاً ، لن أتمتع بنزهتي اليومية قرب النهر ، لن أجد أسراب النوارس الحائمة فوق سطح الماء ، أفتقد أصدقائي ، و أفارق أبنتي و زوجها ، ربما عندما أغادر قد أحصل على الاطمئنان الذي نأى عني ، سأجد شوارع ذات أرصفة أخرى مبلطة ، و لا أجد لافتات سوداء لنعي المغدورين على أسيجة الساحات الممتدة و الحدائق المنسقة . و كما سمعت ، سأجد بحراً ميتاً لا حدود له ، لكن بماء مالح مر و لاذع و لا أرى الشاطئ الثاني مثلما أرى شاطئ النهر الآخر و أشجار النخيل الكثيفة الغارقة في سماء واسعة .
الطريق إلى بلاد أخرى متعبة ، لكن الأتعب كيف تتجاوز كل هذه المسافة الطويلة بما يعتريها من معوقات حتى الوصول ، كنت أستعجل الأمور كي أغادر و لم تكن لدي رغبة للتأجيل ، فكل المستلزمات و المتطلبات كانت متوفرة ، حتى كان يوم فيه الشمس محرقة ، تجعل الهواء ملتهباً ، يكاد يصفع جبيني بكف من نار ، إلا أنني عندما اتخذت مكاني بين الركاب المسافرين ،كان مقعدي خلف مقعد السائق ، كان جو الحافلة معتدلاً ، رغم رغبتي الملحة في المغادرة ، لكنني شعرت بغصة في بلعومي و تذكرت زوجتي و نظراتها الأخيرة لي ، خالطني إحساس بنهاية أمر ما ، ربما لم تعد لي القدرة في التفكير في العودة ما دامت تلك الكتابة لم تمح من نظري ، أو لم يهدم ذلك الجدار و تبعثر شر نثاره يد أقوى من الرياح .
لم تترك الحافلة العاصمة ، إلا و قد تخلف وراءها انفجار هائل هز المشاعر قبل أن يحطم الأبنية و واجهات المحلات الزجاجية و أودى بأرواح بريئة ، و جرحى نقلوا إلى المستشفيات ، كانت هموم الراكبين متقاربة تمر في منحدر واحد ، ودائرة أحلامهم واسعة باتساع الأرض التي تتراجع خلف الحافلة على جانبي الطريق الطويل ، فمنهم من يصطحب عائلته معه و منهم مثل حالتي مفرداً ربما ترك أحباءً يأمل أن يلتم الشمل معهم و لو بعد حين ، و بعد فترة و الحافلة تتقدم باضطراد هيمنت الروح العائلية بين المسافرين . في ظل هذا الجو المشحون بالألفة ، تسرب بصيص من الانفراج إلى عتمة روحي ، حتى كدت أنسى سبب سفري و أنسى الحوادث كلها ، و حسبت أنني مسافر في رحلة سياحية ، و أصبحت ودوداً مع الجميع على اختلاف أطيافهم ، كان يجلس في المقعد الذي بجانبي شاب في العقد الثالث من عمره يضع نظارات طبية فوق عينيه له بشرة سمراء ذكرني بأحمد و أبنتي ، كان شاباً لطيفاً ، أبدى عونه لي . لكنني أدركت بأن وراء سفر هذا الشاب سبباً قد يكون أصعب من سبب سفري .
عرفت منه أن أسمه عبد الله السالم ، كان يبدو متماسكاً ،و قد أسر لي ، أنه مسافر و لا يعلم ماذا يخبىء له أو لغيره القدر في ظل أوضاع لا تعرف من يتقصدك ، و لا يجد ان المبررات صحيحة و كافية لكل ما يحدث ، و أن ثلاثة أشخاص ملثمين قد اقتحموا داره في ليلة أطبق الظلام فيها على كل شيء ، و هددوه بالقتل أن لم يغادر مدينة الجنوب ، و لو لا شفاعة زوجته التي بادلته الحب و تزوجها والتي هي من طائفة أخرى لكان لهم تصرف آخر معه . و ها هو يشد الرحال لعله يجد فرصة للعيش و العمل في بلاد أخرى .
بعد فترة بدأ جو الشاحنة يميل إلى الهدوء ، الأطفال القليلون الذين كانوا يصخبون في حيز الحافلة المغلق ناموا في أحضان أمهاتهم ، مستشعرين الدفء و الحنان ، إلا أن امرأة كهلة كانت مؤرقة العينين كأنها تندب حظها و تعتب على زمن غادر ، في حين أمسى الفضاء المحيط بالحافلة من الخارج شاحباً ، ومن فوق رأس سائق الحافلة كنت أرى الطريق الإسفلتية تتراجع بسرعة تحت عجلات الحافلة ، و ليس هناك ثمة حفر فهو طريق سريع واسع ، فتبدو الحافلة كأنها سفينة عائمة ، من خلال الزجاجة الأمامية ، كان نظري يمتد فأجد الطريق موحشة ، فارغة ، تتراقص عليها خيالات مبهمة تصورتها أشكالاً أسطورية ، و عندما تمثل لي شكل يشبه الجدار أغمضت عيني لئلا أواصل النظر ، كان عبد الله قد ركن إلى النوم ، و كان بودي لو لم ينم ، حيث بدأ الوقت يمر ببطء قاس ، تأملت هؤلاء المسافرين ، قلت مع نفسي ، لا بد أن كل مسافر له أسبابه للمغادرة .
في هذه الإثناء كسر طوق الصمت بكاء طفل ربما جاع أو ربما لأمر آخر ، و عبر الزجاجة الأمامية لاح ضوء خافت يتقطع بين لحظة و أخرى ، تباطأت الحافلة حتى توقفت . بعد ذلك صعد شخص ملثم يحمل بندقية و بصوت وحشي قال:
- على الرجال أن يترجلوا واحداً ..واحداً رافعين أيديهم إلى الأعلى
كانا صفاً من الرجال و كنت في مقدمتهم وأزداد ارتعاش ركبتي ، كان هناك ملثمون آخرون ، خمسة أو سبعة مدججون بالسلاح يتقدمهم ربما قائدهم سألني :
- ما أسمك .. ؟
أجبت :
- حسن السعيد
دوى صوته عالياً
- الموت لحسن السعيد
سبحت صورة الجدار في الفراغ المرعب و هز الصمت صوت الرصاص .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق