الثلاثاء، 10 أغسطس 2010

تكست العدد الخامس - الزمان في العمارة - كتب د.أسعد الاسدي

الزمان في العمارة

د. أسعد ألأسدي



ليس في المكان وحده توجد الاشياء ، بل في الزمان أيضاً . والزمان كما يقول ( ايغلتن ) هو ليس وسط نتحرك فيه ، كما تتحرك القنينة في نهر ، بل هو تركيبة حياة الانسان ذاتها ، فهو شيء تم صنع الانسان منه ، قبل أن يكون شيئاً يمكن قياسه . وهذا كلام يلائم الكثير منه وصف العمارة كما يتاح له أن يصف سواها . فهي أيضاً شيء بعض مادته الزمان، اذ أن العمارة لا تبدأ ولا تدرك ولا تفعل ولا تدوم الا في الزمان . ولست انوي هنا الوقوف على ماهية الزمان ، وكل ما أنويه هو محاولة تذكر وقائع مصادفته ، وشهود تلك الاحايين أذ يحضر حالا في سواه او ساكنا اليه ، مثل كائن يصعب وصفه ، يدور حول الأشياء ويتمرأى بعض تجلية ما يتجلى ، ويستحيل هذا الكيان التجريدي ( الزمان ) في احيان إلى أن يتأسس في العمارة في لحظات مكانية ثابتة ، تختزنه وتوحي به ، فيبقى في الغرف والفضاءات وعلى سطوح الجدران والابنية .




ويظهر الزمان لازماً في العمارة ، في بدء الانتفاع بها . حيث أن اداء الفعل الوظيفي الذي كل مهمة العمارة أن تأويه ، والذي هو مكون اساسي في ماهيتها ، لا يكون الا في زمان يأويه أيضاً . فالعمارة لا تنتهي في كيان مادي هو المبنى ، بل هي تبدأ فيه ، ولا تكون الا عندما تحدث في مباشرة الحياة الأنسانية في المبنى ، فيكون زمان الفعل هو بعض حياتها وبعض عمارتها . وان ما يحدث حقيقة في اثناء ممارسة الافعال الانسانية في الأبنية ، هو تمكّن الانسان وبمساعدة المبنى من أن يمسك بالزمان ، ويثريه في استغراق حياة الفعل والوظيفة .




وبالاضافة إلى زمان الفعل الانساني في العمارة ، فأن في تلقي المبنى والكشف عن تجلياته الشكلية وقراءة ملامحه التعبيرية ، وهو كيان معقد ومتعدد السطوح ومتنوع الاشكال والكتل البنائية ، ما يستلزم زماناً يطول ويتنوع بفعل ما يتضمنه من قراءة للمبنى . وكما يقول ( زيفي ) ليس ثمة عمل من اعمال العمارة منذ الكوخ الاول إلى البيت الحديث والمدرسة والكنيسة.. يمكن أن يختبر ويدرك بدون الزمان اللازم لأجل اكتشافه . حيث يتحرك الانسان خلال المبنى ويرقبه من وجهات وزوايا نظر مختلفة يختارها بنفسه ، وكل ذلك زمان يمنح الفضاء والعمارة وجوداً حقيقياً متكاملاً .








ولا شك فأن في زمان الفعل الوظيفي في المبنى ، وفي زمان تلقي الانسان للمبنى ، ما يمثل فرصة لأن يألف الانسان الأمكنة ، فيكون زمان ألفة المبنى هو بعض ماهيته ، لأن المبنى يتحصل بتأثير ألفته على سمات وملامح اضافية وجديدة ، من خلال علاقته بالانسان الذي ينتفع به ويتعايش معه . اذ يزداد البيت في كونه بيتاً بقدر بقائه في الزمان بيتا ، فهو الآن بيتٌ ، وطالما تقادم الزمان عليه فأنه يزداد امتلاكاً لهويته وتاكيداً لها . ومن هنا يتدخل الزمان في أنه مكون في العمارة وليس فقط مستوعبا لافعالها ولحضورها . ويزيد تأثير الزمان في العمارة مع بقاء العمارة في الزمان عمارة ، وتزيد علاقة الانسان بها ، فيستحيل عمر المبنى إلى أن يكون بعض ماهيته . وكما يقول ( رسكن ) فأن امجاد الأبنية لا تكمن في صخورها أو في ما يزينها من ذهب ، لأن مجدها الفعلي انما يكمن في قدمها ، فهو مجدها الكامن في ثباتها العظيم بازاء كل ما هو انتقالي . كما أن العمارة التي توظف في ايواء الفعل الانساني تتمكن من ايواء الزمان في المكان ، من خلال اثراء المبنى بالملامح ، التي تثير الوعي وتختزن زمان ولادته في التلقي ، حيث لا يمكن لمبنى دون ملامح ثرية أو عميقة على الرغم من بساطة حضورها ، أن يثير الوعي ويستغرق زماناً للتلقي يبقيه في الذاكرة . ويمكن ادراك تمكن العمارة من ايواء الزمان من خلال بنية الشكل وايقاعاته التكوينية ، وهي توحي بأيقاع زماني ، يتأكد في التكرار وفي لعبة الضوء والظل ، والليل والنهار التي تتواصل داخل المبنى وخارجه ، والتي تقيم علاقة للمبنى مع الزمان الطبيعي في تجلياته البيئية المؤثرة في الفعل الانساني ، وفي توفير مستلزمات ملاءمته . حيث تشترط كثير من الافعال الحياتية في المبنى مثل هذا التواصل مع الزمان والبيئة الخارجية . وفي كتابه ( جدلية الزمن ) يشير ( باشلار ) إلى دور الايقاعات الزمانية أو البنية الايقاعية للزمان ، في اثراء الجو الانفعالي والحياتي للأنسان ، ويصل إلى أنه ليس عبثا" أن يكون للشعر أثر في ترفيه الانسان . ويمتلك الايقاع في العمارة هو الآخر تلك القدرة على اثراء الحياة الانفعالية للانسان ، كما يتجسد ذلك في ايقاعية التكوينات الشكلية في الأبنية ، فيكون لهذه البنى الزمانية التي تقدمها العمارة تأثيرا في كيفية ادراكنا للزمان وعيشنا له . لانها تقدم ايحاءات بأزمنة واقعية يمكن أن تمثل ازمنة حقيقية ، كما يدعو إلى ذلك ( بوم ) حيث يقول بأن الزمان الذي نشعر أنه يمر بسرعة ونحن نمارس نشاطاً ممتعاً ، والزمان الذي يشعرنا بالملل حين يمر بطيئاً متثاقلاً ونحن في انتظار زائر لمّا يأتِ بعد ، هي ازمنة حقيقية مثل تلك التي تنبض بها ساعاتنا اليدوية . وهو أفق يجعل من الزمان الذي يسكن الابنية ، في امكنتها واشكالها وملامحها ، بعض فعل العمارة في حياة الانسان ، حيث تمسك بالزمان ، وتقدم نظاماً مقترحاً له وهي تفعل فعلها في تنظيم زمان الأمكنة حيث يحل الأنسان . وقد كانت الكنيسة في ما يقوله ( لوفيفر ) تنظم الساعات والاعمال على رنة اجراسها ، وتنظم تقويم الايام تبعاً لتعاقب الاعياد ، فيستحيل الزمان إلى حدث اجتماعي متعين مقتطع في الطبيعة .




ولا يمكن لكلام عن الزمان في العمارة ، أن يغفل الاشارة إلى التراث ، بوصفه عمقاً زمنياً يحضر في شكل معماري موروث ، وفي خبرة وتجربة العمارة مع مهماتها ووظائفها الانسانية . ويلاحظ بأن العمارة تتعاطى الاشكال الممكنة والتي تشكل الخبرة والاشكال التراثية جزءاً من رصيدها وجزءاً من الممكن ، فيحضر الزمان في مضامين تقدمها مفردات وتكوينات شكلية قادمة من عمارة ماضية وطراز معماري قديم ، ويحضر ما هو شكل موروث في مبنى حديث وهو يختزن تاريخ المفردة الشكلية وايحاءاتها التعبيرية ، حيث يمتلك الطراز المعماري فضلاً عن قيمته الاسلوبية والشكلية ، دلالة على زمان معين يرتبط به ، يستحضره حيثما أستُعيد في مبنى جديد آخر ، فنكتشف في الشكل المعماري زمناً مضارعاً في شكل مبتكر ، وزمناً ماضياً في شكل موروث ، وهو تداخل زمني يمكن أن ندركه في ابنية المدينة أو في مبنى مفرد يستثمر معطيات التراث في بناء شكله ، فيحتوي المبنى الجديد على شيء من المبنى القديم ، الذي يصبح هو الآخر محتوياً على شيء من المبنى الجديد ، في ديمومة وتواصل زماني يبني وحدة اسلوبية وتعبيرية في العمارة . فالعمارة كما يقول ( رسكن ) أنما تجهز وسائل للاحتفاظ بالماضي وادخاله في الذاكرة ، ويصفها بأنها المتغلب على النسيان .




ويتبين من ذلك تأثير التراث في العمارة وهو يحضر مكوناً في حاضرها وحداثتها ، ويكون ماضي العمارة بعض ماهيتها المتكونة وبعض تجليها الحاضر ، يقول ( بونتا ) أن مادة العمارة هي ليست الحجارة ، بل هي ابداع انساني مشحون بالأرث الحضاري للمجتمع . ويجد ( بالاسما ) أن التقاليد والتراث هما قضية ذات دلالة عميقة تتعلق بالحس التاريخي ، الذي يدعو المعماري إلى أن يبدع ، ليس فقط بالاندماج مع جيله الحاضر ، بل مع الشعور بكل الابداع الحاضر والماضي ، ليكونا معاً في وجود واحد ، وهي دعوة للأحساس بما هو مجرد من الزمان ، وبما هو زماني ، وبما يمكن أن يجمع بين الاثنين معاً ، فيجعل المبدع تقليدياً وفي الوقت نفسه واعياً لمكانه في الزمان ولحداثته .





ولا شك في أن تراث العمارة الذي يحضر في حداثتها ، والذي ينجز في ذلك ديمومة وتواصل ووحدة فيها ، انما يؤكد بأن الزمان هو بعد مكوّن في العمارة ، يستغرقه بناء ماهيتها ، ويحضر مضموناً في تجلياتها الشكلية المنتمية إلى ازمنتها المختلفة . ويكشف بذلك عن تدخل البعد الزماني ومضامينه التراثية بوصفه بعداً انتمائياً للعمارة ، وعن فعله في تحول العمارة وتغيرها ، في ضوء تحوله هو بعد زماني متغير ، يمثل احد اكثر افاق نسبية ما هو مطلق وتحول ما هو ثابت في ظاهرة العمارة .




للعـودة للصفحة الرئيسة – العدد الخامس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق