في السرديات الثقافية
بلاغة التزوير للدكتور لؤي حمزة عباس
هيثم عيسى
منذ أن عومل التاريخ بوصفه جسداً نصوصياً و إستراتيجية قرائية لهذا الجسد وتفسيراً لها أصبح النص مجتمعا وثقافة وتأريخاً . على وفق هذا الجو المعرفي أسس الدكتور لؤي حمزة عباس لكتابه " بلاغة التزوير ، فاعلية الإخبار في السرد العربي القديم " الصادر عن الدار العربية للعلوم ناشرون بالتعاون مع منشورات الاختلاف في بيروت باحثاً في العلاقة المعقدة في التجربة الإنسانية بين المنجز السردي كتعبير وبين النص كظاهرة وفعل حادث وكتأويل لهذا كله .إن الكتاب يضم مقدمة في الدراسة السردية و بابين بستة فصول، يحتوي كل باب على ثلاثة فصول. تفصح الدراسة في المقدمة عن منهجها فتتوجه لمعالجة السردي من منظور تعالقه مع الثقافي واكتشاف قدرة كل منهما في الإفصاح عن الآخر، وتعلن ابتداء عن ارتباط فاعلية الإخبار، على نحو مباشر، بحركة السياق الثقافي فيغدو النص السردي منتجا ثقافيا يمكن له أن يقول الكثير عن البنى التي أسهمت بإنتاجه وتكون الفاعلية الصياغية للنص السردي هي، بشكل او بآخر، المعبر الفعلي عن سيرته.تشغل ثلاثية (الإخبار)،(التمثيل)و (التخييل)المساحة الصياغية للنصوص السردية غير أن (التمثيل ) و(التخييل) أوسع بالضرورة من مساحة (الإخبار) بما يؤمن لها مجالا دلاليا يمكنها من تقديم وصف اثنولوجي .أما المنظومة الخبرية وهي تكثف مراحل إنتاجها وتسهم بإعادة قراءة وقائعها لتغدو تدوينا إيديولوجيا للعصر، تخضع حركة عناصرها ومكوناتها لإستراتيجية ثقافية يصعب إدراك أثرها بغير النظر الفاحص الى للعناصر و المكونات في ثباتها وتحولها.
يفتح الفصل الأول افقه لجمالية المواجهة في شعرية الرسالة فيقول أن الرسائل تعلق ولاءها شبه المطلق ,بوصفها نصوصا ,لقوانين الثقافة التي تندرج ضمنها وتحترم بدرجة كبيرة وجهة نظر المنتمين إليها .أية رسالة لم تحقق حضورها النصي تظل نصا خارج سياقات الثقافة .تتغير الرسالة استجابة لموجهات سوسيو –ثقافية تغدو فيها كل رسالة ترجمة إيديولوجية لموقف .
وينفرد الفصل الثاني بأمية بن أبي الصلت كمنظومة خبرية وقد أسهم البعد المعرفي والتاريخي بإنتاجها شخصية ذات حضور ثقافي يهيئ لها أفقا تأمليا ينتقل من الخاص الى العام ، من الذاتي في معاينة التجربة وإعادة إنتاجها إلى الموضوعي بشموله الانساني والكوني هدفها تأكيد صدق العلامات الدالة على بعثة الرسول محمد (ص)وعبر تطلعها تصرح الأخبار بقرب زمن البعثة النبوية .
و تحت عنوان( بلاغة التزوير) ينشغل الفصل الثالث بدراسة أخبار التزوير كما وردت في كتاب ( نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة ) للقاضي التنوخي .ان مواجهة الراهن والاعتراض عليه هو جوهر تأليف الكتاب وعلته اذ تنطق الأخبار فيه عن وعي مؤلفها وتعبر عن رؤيته لعصره وثقافته وهي تعيد أنتاج الحياة في منظومات خبرية متضادة مرة متفقة أخرى .ان للتنوخي قناعاته واعتقاداته وموجهاته الثقافية وهي تلقي بظلالها على الأخبار بوصفها حوامل وتفضي بأحكامها على محمولاتها بأسلوب مباشر مرة وغير مباشر مرة أخرى .
أما الفصل الرابع فيشتغل على سيرة المغترب – كتاب( طوق الحمامة )لابن حزم الاندلسي أنموذجا.ان الكتاب لا يقف عند نوع أدبي محدد وان شعورا واضحا بالفقد والاغتراب يخطو جنبا الى جنب مع اخباره وحكاياته فيبدو عندئذ مسوغا من مسوغات التفات المؤلف لموضوعه وسببا في الاستجابة لطلب تأليفه ليدون ابن حزم سيرة اغترابه عن مكانه وزمانه .
يمضي الكتاب في فصله الخامس ليقدم دراسة في كتاب (سلوان المطاع في عدوان الأتباع ) لأبي ظفر بن عبد الله الصقلي . إن هذا الكتاب يقترح دليل قراءته ليستند الى ركنين ،المؤلف والنوع .وتخلص الدراسة الى ان بين المؤلف والنوع يبني الكتاب هويته .
انحصرت اشتغالات الفصل الأخير على إستراتيجيات الخبر وصياغة التاريخ لتكون دراسة في( كتاب الأصنام) لابن الكلبي . يعمل كتاب الأصنام على تامين لحمة مضافة تؤدي داخل سياق ثقافاتها المنتجة مهمة ذات متجهين ، تسهم بمتجهها الأول بإعادة إنتاج وقائع تاريخية معينة بناء على ما تقترح من نظام وهو ينتقل بها من التاريخ بوصفها أحداثا إلى الثقافة حيث يغدو نصا في شبكة كبرى من النصوص,مثلما تسهم بمتجهها الثاني بتأسيس ما يمكن من الصلات مع سواها من النصوص لتعد ،عندئذ ,مكونا إيديولوجيا .
يتمتع كتاب (بلاغة التزوير) للدكتور لؤي حمزة عباس بمنهجية رصينة الى جانب غزارة مادته المعرفية واتساع أفقه وهو يترك بصمته كاسهامة قي تعميق المشروع البحثي الخاص بالكشف عن آليات الإخبار، التمثيل والتخييل في السرديات العربية القديمة وطرق اشتغالها . ويقدم الكتاب مصطلح (بلاغة التزوير) باليات اشتغاله ليكون استفزازاً للسرديات الثقافية واحتفاء آخر بأوجه بلاغة تربت في محضن النقد الثقافي مثل بلاغة المقموعين و بلاغة التحامق والجنون .
على الرغم من كثرة المشتغلين بالسرديات الثقافية من العرب فلابد من أفق جدير بهذا الكتاب ان يشغله للكشف عما تضم منظومتنا الثقافية من نصوص مثيرة للانتباه عندما ننظر الى هويتها، نصوص تتعتم وتختفي ، غير ان تمثيلاتها الثقافية تجعلها تنبعث في كل نقطة انبعاثا جديدا، وبذلك يتمكن كتاب بلاغة التزوير من وضع (الحقيقة) موضع سؤال (ضد الحقيقة) في اشارة الى استقرار النقد الثقافي كحضور وانجاز مشتغلا على مستويات تحليل الخطاب للكشف عن انساقه الثقافية الفاعلة وعن اسئلة الهوية والآخرية والتمثيلات الثقافية.
للعـــــــــــودة للصفحة الرئيسة - العددالخامس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق