الأربعاء، 11 أغسطس 2010

تكست - العدد الخامس - في المسرح الشعري : الانموذج الثوري - جاسم عاصي

في المسرح الشعري -

الأنموذج الثوري

جاسم عاصي

الأديب والفنان ( مهدي السماوي) تميـّز منذ ستينيات القرن الماضي بالنشاط المتعدد الجوانب . لكن تركيزه كان منصـّبا على المسرح تأليفا ً وإخراجا ً . وقد كتب معظم نصوصه من خلال توظيف قصيدة النثر ، وبذلك أقترب كثيرا ً من نص المسرح الشعري ، وقد أصدر في هذا مجموعة من المسرحيات نذكر منها ( حصان محترق الأطراف 1969, المظاهرة 1973، جاءوا في العام الخامس عشر بعد النصف الأول من هذا القرن 1974، سرّي جدا ً 1976، الصهيل 1981) . وأخرج العديد من الأعمال المسرحية ، سواء كانت من تأليفه أو معدّة عن المسرح العالمي أو العربي . وساهم مساهمة فاعلة وجادة في تنشيط وتطوير حركة المسرح في مدينة الناصرية . وقد تميّزت مسرحيته الأخيرة ( الصهيل ) في كونه قد تجاوز نصوصه السابقة ، لا على صعيد طرح الأفكار والنماذج التي كثيرا ً ما أعاد صياغتها بأنماط مختلفة ، وإنما على صعيد تركيز الشخصية التأملية في النص والغرض منها ، منحها قدرات من الفكر والفعل الحياتي ، تجاوز الكثير من أعماله .

وهنا نحاول قراءة نصوصه المذكورة من باب الجانب الثوري الذي جسّدته شخصياته وثيماته المسرحية .ففي نص ( حصان محترق ألأطراف ) تتجسّد فيه الأخلاق الثورية من خلال شخصية ( سرجون الأكدي ) . هذا الأنموذج الذي يحمل على كاهله كل تبعات عصره ، محولا ً إياها عبر طاقته الثورية إلى مآرب وأفعال التغيير ، لوضع اللبنات الأساسية في تطوير بنية المجتمع الأكدي ، وإعطاء عصره وزمنه المتمثل في مدينة ( آكاد ) صورة جديدة ، تخلقها سواعد الثوار الملتصقين بالأرض وحيثيات أفعالهم ، مندفعين بإرادة واحدة ضد عناصر وبؤر الشر المتمثلة في العدوان على مدينة ( آكاد ) . لذا فأن النماذج في المسرحية تعيش تحت وطأة هذا الغزو . وتبدو النماذج الإيجابية مجتمعة في حب الوطن والأرض والإرث الحضاري . فـ (الراعي الأعرج وآنينا ) يشدهما مصير واحد هو مستقبل آكاد . فالأعرج يسرد حكايته أمام المواطنين عن المدينة والغزو والاستقلال . لكن التصعيد الثوري عنده يأخذ شكلا ً تصاعديا ً تتطلبه طبيعة التسلسل المنطق المسرحي . وهو إنما يعرض الحال أمامهم . خاصة ( آنينا والنحات والمواطن الأول ) :

{ ــ نحن الرجال الذين أحبنا آنو .

ــ وحق عشتار أنك لتعرفني معرفة الأخ لأخيه . أم الملك سرقت أفكارنا

كي تبقي لولدها الخائب ذاك العرش . }

و تعد هذه الصرخة الأولى في النص ، قبل طرح أفكار ( سرجون ) . وحيث تتخذ الصورة لها ترابطا ً على صعيد سرجون نفسه :

{ لا أحد فينا يلثم العرش ،

كل الذي هو العطاء ،

السهول واسعة وسهل شنعار

خال من كل الرعاة .

البيوت والمعابر تهدم ،

لأن رجالها دفعوا فدية للملك }

ولا يكتفي ( سرجون ) بهذا الطرح ، بل يتصاعد في حواره النفَـَس الثوري من خلال الكشف والتحريض :

{ إن لم تحركوا أيديكم .

إن لم تفكروا بالغد والغبش يفضح الظلام ،

القمر يسبح في نهر الفرات

والنجم ينتظر خجلا ً على الضفاف

أنتم تعيدون

صوت الطبل صدى قدسية أبائنا يوم هـَزموا السومريين من هذه الأرض

ليبنوا ،

ليزرعوا

أية أخبار تنتظرون أية حكاية أقعدتكم كل هذا الزمن ..؟ }

ويكون الراعي الأعرج عنصرا ً مكملا ً لما يعتمل في وعي سرجون ، بل هو الأداة التي ألحقت بها قوى الاستغلال:

{ لنبث أفكارنا ،

لنطوق القصر الخاوي الأضلاع }

هذه الصورة من التناول تتوزع عبر وعي سياسي لدى نماذج الكاتب . وهو إنما يطالب بالقدرة على إعطاء الحركة الثورية بعدها السياسي والنضالي . وهذا ما يقرّب النص من المعاصرة . وذلك لربطه بالقضية الفلسطينية التي هي محور أعمال الكاتب . فحين يدرس واقع حال مدينة آكاد وما لحقها من تخلـّف وما ترتب عليها من جرّاء قوى الاستغلال ، إنما يبدأ بالتحريض واستخدام القوة مارا ً بتصعيد الوعي السياسي الذي يواكب الفعل الثوري . أي لا فعل ثوري بدون فكر ثوري ، حيث تمتد أفكار شخصياته الإيجابية في النص بتواصل سلمي . ويشتد الصراع بينها وبين القوى المضادة . أما شخصية ( آنينا ) فتجسد الرمز في المسرحية ، فهي من خلال قول النحات ، حين يطلب منه الراعي نحتها ، إنما يؤكد صعوبة قيامه بهذا العمل :

{ لا أقوى على نحتها

فكرت ، تهيأت ..

سرجون همس في أذني أترك آنينا ما أن تحدد معالمها

تذبل وتهوى في نظر الأحفاد

طليقة المعالم

أوسع من الأرض

أقوى من الريح

وأعلى من السماء

آنينا الأجيال }

أما على صعيد القوى المضادة كالكاهن وبقية حاشية الملك ، فإن ما جاء به سرجون من أفكار الإخاء تثيرهم فيقول الكاهن للملكة :

{ بمَ يطوق سرجون ..؟ الإخاء ..

الإخاء يا للظى الجموع }

هذه الإثارة تقضّ مضاجع حاشية القصر وأتباعهم في المعبد ، وهي تجدد طاقة سرجون وأقرانه ، حيث يطلق صيحته :

{ أكفنا ستلطم الضياع

وتعيد في الأقبية صريرا

أمام حقنا

يئن المهزومون

إنني المرأة الحبلى

وتبح الأصوات

يرى الطفل الابتسامة

والأب يعود والأبواب

مزاميرها سلام .. سلام }

ويتواصل النفـَس الثوري في مسرحية ( المظاهرة ) ، فهي قد وظـّفت التراث العربي الإسلامي وقرّبته ـ كما في النص السابق ـ من القضايا المعاصرة ، التي تعيشها الأمة العربية . ولكن هذه المرة في شخص ( مسلم ابن عقيل ) الذي يبدأ مسيرته الثورية بهذا القول :

{ أيتها الأفواه ،

هيئي للسجون ساكنين

هيئي لسياط جلادي ظهورا ً

وإلا ّ فأنتم أقرب وأقرب

من يملأ ألأكياس لحما ً طريا ً }

لحظتها يدب الذعر في نفوس الرجال وزهير ، يوقظهم أبن عقيل برجاحة فكره وثوريته قائلا ً :

{ أتخافون ملاقاة جسد أجوف

ورأس يحكم بلا عقيدة

أتريدون ميتة الوحوش ..؟

يا أهل الكوفة أني قدمت من عند الحسين

كاشفا ً درب البيعة وقلوب الأصحاب

فما بال الهزيمة في تواصيكم تلمع

والموكب قد سار }

هذه الصرخة المرتكزة على الوعي الثوري ، ترتبط بنفس ما جاء به ( سرجون ) لدى قيادته لأبناء مدينته ضد حاشية الملك ، تلم الثورة المتفجرة بعقيدة ووعي ثوري غير انفعالي . وتكاد تكون نماذج الشخصيات في النص على درجة كبيرة من الوعي ، استطاع الكاتب أن يوقظ إمكانياتها بشكل مقنع . فـ ( حبيب بن مظاهر ) تتوازن في شخصيته القدرة الثورية . وهو لا يطلق من لسانه إلا ّما اكتمل به فكره من صلابة العقيدة وأساسيات ثورة الحسين . فهو يؤكد لـ ( مروان ومزاحم ) في أشد الغضب عندهم : { الأرض للإنسان } . أو حين يتهمه مروان ويلصق به صفة البحث عن المنصب ، يقول نحن نبحث عن { لغة الإنسان } . وتلك المقولة والتي سبقتها تثبـّت أمامهم طبيعة الثورة التي جاء بها الحسين . وهي إنما تقرّب حدث المسرحية من القضايا المعاصرة ، خاصة ما يناضل من أجله شعبنا في فلسطين من أجل الأرض وإعلاء صوت الإنسان ودوره في البناء .

وتستوضح مسيرة الثورة ، حيث يكون (المختار ) لسان الحال في طرح طبيعة الثورة وإدامتها في التغيير :

{ البداية تاريخ مهدور في جيوب الأسماء

ولن تهلك أقدام الجياع

حيث تمارس مواقف الفضح للأثرياء

تعطيكم

تزرعون

تحصدون ثم تأكلون

تلك شعارات الحياة

ويحكموننا كأبقار حبلى في الشمس

أين أنتم يا شباب الكوفة

لنولد في ثورة الإنسان

لنتحد كلنا }

ويصوغ ( هاني بن عروة ) المقولة الثورية على النحو التالي :

{ يا رفاق الإنسان

من رأى منكم جريمة فليتغيـّر

بالتمرد وبالثورة

بالدم

جدرانهم عالية

لكن ذواتنا أعلى }

تبدو نماذج المسرحية يتوازن عندها النفـَس الثوري ، حيث أعطت صورة جليّة لما يجري في العصر الموروث ، كي يوظفه الكاتب لمجريات العصر الحاضر . خاصة على لسان ( ابن عقيل ) وهو يرد على(طوعة ) وهي تسأله من يكون :

{ ظمـِأ أحارب .. ظمأ الرجال

وظمأى وسط بحر متلاطم الأفكار }

ويبقى ( ابن عقيل ) لا يتعدى صورة الحسين في فهم الطريق الذي أمامه فهو يقول :

{ إن كان قتلي ضوء للسلام فليكن

وإن كان قتلي عشق عقيدة

فليكن

إن كان قتلي ينبئ بالشهادة

فليكن }

لكن ( هاني بن عروة ) يطلق صرخته بوتيرة أشد ثورية :

{ لا تظنوا الدفء جاها ً في مخبأ يزيد ..

لا تظنوا الدفء وساما ً علـّق حول رقاب الانحناء

لا تظنوا قتل ابن عقيل قتلا ً لأفكارنا

سنظل في الانتماء

رفاقا ً للإطاحة بالسلطة

وسنظل لنصرة الحسين }

وتنطوي مسرحية ( جاءوا في العام الخامس عشر بعد النصف الأول من هذا القرن ) على نفس الموضوعية الثورية . ولكن هذه المرة دون الاستفادة من الموروث ، بل معالجة القضية الفلسطينية والدفاع عن الأرض بشكل مباشر ، وعبر تداخل في النص المسرحي واحتدام المواقف . لكنها جميعا ً تحكي قصة الصراع من أجل إبراز دور أصحاب الأرض والدفاع عن هوية الوطن . وعدتهم الشرعية في الدفاع عن أهدافهم ، في بناء الوطن وفق منظورهم ووعيهم ، فما ـ أصوات عبر المسافة ـ إلا ّ لتؤدي هذه الصورة على الشكل الآتي :

{ لم تكن البداية تلك

تلك كانت المهزلة

اليوم مهزلة أن لا تعني للخوف

مهزلة أن يظل الرجم علينا بمقاليع أيدينا

والحصى أعيـّنا ً

والساحة ضمن ضلوع البلد المخزون

في دفتيّ الرصاص

وسيف مسلول يقطر زيتونا ً أحمر }

ويكاد الصوت هذا يتجدد على طول مسيرة النص المسرحي هذا ، رادّا ً على كل مقولات الشخصيات الأخرى :

{ يعود الصبح فارس الثورة

في الركب كلنا مقاومة في مداخل المدن المغلقة

نحن الأبواب .. الضوء المتوهج ..

عمال الساحات ..

ضوء المدن ومناجل الأخوة

أقواس النصر }

ويقف النص من كل ما أتت به السياسات الخاطئة تجاه القضية الفلسطينية وتجريدها من هويتها الثورية ، موقفا ً جديا ً وفاضحا ً :

{ وبعد نهاية القافلة

يأتي سجـّان الأيام برواية

الطرد والضرب

ويهوي في البعد جدار

قاتلا ً صبية الخيمة

قضاء وقدرا ً }

وترد أصوات عبر المسافة :

{ ارتديتم ثياب يزيد على مسرح الأحداث

وأبحتم وطء وجوهنا ..

حسينا ً..

أرتشف الحياة حرية

فلنعزز الإدانة في جسد

غزاة ركب مثخن بالجبن }

ويكاد الصعيد الثوري يسير على نفس الوتيرة الهرمية التي جاءت فيها النصوص السابقة . ولكن بشكل أكثر مباشرة ، وبطرح جديد . ليس من أجل توضيح هوية الثورة ، حيث أشبعته المسرحيات السابقة ، وإنما من أجل المجابهة والمقاومة الآن حيث :

{ لا مشروع في أرضي

ولن يتوه طعم السلام من غصن الزيتون

لن يحرفوا شهادة الميلاد

فأنا عربي فلسطيني الأم

يا صوت الثورة لن أحمل

أوجاعي دهرا ً

فالسند القائم بين النهرين

ظهر من صلب

ثورة نبوءة مابين النهرين }

وهذه الموضوعة التي طرحها ـ صوت عبر المسافة ـ تثير عضو المرافعة والمحامي البارز . حيث يؤكد عضو المرافعة للمخبر :

{ سند مابين النهرين

أرم الكل لا صوت ..

لا غوغاء }


ويردد المحامي البارز :


{ ترى كيف يترنم هؤلاء الأشقياء

بسند مابين النهرين ..؟ }

وبذلك يشتد الصراع في النص ، لكنه إنما يؤجج النفـَس الثوري . حيث يستوضح موقف النماذج التي تدافع عن الأرض والوطن والشعب . وتعلو أصواتها وأفعالها على أصوات وأفعال الغزاة والسائرين في ركابهم :

{ لا مشروع .. لا دولة

لن يهوي الزمن

ليرفع كفة

الرجعية لكفة المقاومة

يا وطن .. أفتح ذراعيك وصدرك

افتح قائمتك العريضة من المحيط للخليج

لتقرأ قوائم الشهداء

لتحيا يا وطني الكبير }

وهذا الصوت ، هو خير ما تسدل بعده ستارة المسرح ، حيث تبدأ مسرحية ( سرّي جدا ً ) على نفس الطريق . مؤكدة على دور الأغنياء والفقراء وصراعهم هذه المرة بمفتتح :

{ إن أكثرت من الاستغفار

تشعر نفسك بكثرة الأخطاء

ويصعب عليك جمع ثروة محترمة

لا تخف من كان فوق سيبقى فوق

والذي تحت سيظل كذلك }

وهذا ما جاء على لسان التاجر .

إن ما جاءت فيه مسرحية ( سرّي جدا ً) ، هو معالجة الواقع الاقتصادي أو الطبقي وصراع الأضداد . فـ (المعين ) يقول لصاحب المقهى :

{ ألا تحس بأن هناك شيئا ً غير صحيح

شيئا ً في غير مكانه ..؟ }

فيرد عليه صاحب المقهى :

{ بالطبع .. لكني أملك تسعة أطفال وزوجة }



وهنا يبرز جانب التحريض ، وتوضيح هوية الثورة :

{ من أجل هؤلاء نتظاهر

نواجه الغد

الإضراب .. الانتصار

من أجل هؤلاء }

حيث تملأ صاحب المقهى الريبة والخوف من المخبرين ، فيؤكد له المعين :

{ إنهم يؤدون واجبهم بطريقة الخطأ

ولن يتبينوا هذا الخطأ

من يعمل ضد المجموع هو الذي يـُحاسب

لا من يعمل مع المجموع ولأجله }

وتبدو قناعة صاحب المقهى متبلورة . ولكن بشك :

{ يقولون أنكم تريدون إلغاء الفوارق }

فيجيبه المعين :

{ الفوارق وجدت من أجل حفنة من الرجال

ولذلك فهي مرفوضة }

ويكاد يكون صوت ( المعين ) هو الطاغي على النص في تحريض الآخرين ، وأداء فعله الذاتي ، وجهده من أجل توضيح حقيقة مسار الواقع الاجتماعي وملابساته أمام العامة من الناس . هذه الموضوعة التي جاءت بها المسرحيات السابقة ، تكاد تتجدد في هذا النص ، ولكن بوتيرة وروح مختلفة . إضافة إلى وضع مفاصل في الصراع الدائر بين قوى الخير وقوى الشر ، وترسيخ عرى الثورة في وعي الناس وطبيعتها المتجددة . فالأصوات في المسرحية تردد في نهايتها :

{ يا وطني مسافرون نحن

بدأنا الخطوة

وعلى مشارف شهدائك

ولنا حبا ً .. حب الأمة

حب العالم }

حيث يتوحد الصوت مــع الأصوات التي جاءت بها ذوات شخصياتــه فـي المسرحيات السابقة ، اعتبارا ً مـــن ( سرجون ) إلى ( مسلم بن عقيل وهاني بن عروة ) ثم أصوات عبر المسافة ، لكي يتشكـّل الإطار الثوري الذي أتت عليه المقاومة الفلسطينية التي عالجها الكاتب الراحل ( مهدي السماوي ) في كل النصوص التي كتبها .

الهوامش /

1ـ مهدي السماوي / جاءوا في العام الخامس / مطبعة النعمان ـ النجف 1971

2 ـ مهدي السماوي / المظاهرة / مطبعة النعمان ـ النجف 1973

3 ـ مهدي السماوي / حصان محترق الأطراف / مطبعة الغري ـ النجف 1969

4 ـ مهدي السماوي / الصهيل / وزارة الثقافة ـ بغداد 1981

5 ـ مهدي السماوي / سرّي جدا ً / مطبعة الغري ـ النجف 1967

للعـــــــــــودة للصفحة الرئيسة - العددالخامس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق